الأربعاء، 9 يناير 2013

 هوامش حرة بين الشـــعر والسياســــة


 كتبها / فاروق جويدة

يعلم الله أنني ما أحببت السياسة في يوم من الأيام وما دار في فكري ان اقترب من امواجها أو اسبح علي شواطئها‏..‏ وكنت أراها دائما مساحة شاسعة من الغابات الموحشة التي لا يعرف الإنسان متي يسقط فيها امام كيانات متوحشة تجيد التسلل والهروب والانقضاض‏..‏
كنت أري ان الشعر واحتي التي آنست فيها زمنا واسترحت علي ضفافها ومنحتها العمر بكل سخاء.. ولهذا كانت الكتابة السياسية بالنسبة لي عالما غامضا مجهولا حاولت ان أستكشف فيه ما استطعت إلي ذلك سبيلا, ويبدو انني رجعت من رحلتي الشاقة وقد تكسرت النصال علي النصال.. فلا انا اصلحت فسادا ولا انا داويت جراحا ولا انا حققت للناس ما رسمت من الأماني والأحلام..
ما بين الكتابة السياسية, التي استهلكت زمنا طويلا من عمري, اعترف بأنني اجتهدت فيه وحاولت ان امزج بين روح الشاعر وحيرته وامانة الكلمة ومصداقيتها في دنيا السياسة التي قليلا ما عرفت المصداقية.. ربما اسرفت في احلامي في اوقات كثيرة وتصورت ان روح الشاعر الوثابة يمكن ان تقتنص حلما في دنيا السياسة.. ولم تكن الأحلام احلام انسان يسعي خلف طموحات فردية براقة ولكنها احلام إنسان تصور انه قادر علي ان يحلق بشعره في السماء واقدامه تمشي علي الأرض, فلا هو طار ولا هو سقط وظل معلقا بين الحلم والحقيقة.. بين الواقع والخيال..
قلت ان الكتابة السياسية استهلكت جزءا طويلا من عمري,احيانا اشعر بالندم فقد كان الشعر أولي بهذا العمر واحق بهذه المعاناة ولكنني احاور نفسي فأري ان هناك عقولا تفتحت وقناديل أضاءت وان ثورة يناير رغم انني لم اشارك فيها بجسدي امام قلب متعب إلا ان روحي كانت تحلق فوق هذا الشباب الرائع الذي انتشل وطنا في لحظة إعجاز إلهية من ظلام ليل دامس طويل.
وجدت نفسي بلا أي حسابات مشاركا في إعداد دستور مصر في جمعية احاطت بها تساؤلات كثيرة واعتراضات أكثر ولم اتراجع وقررت ان امضي دون ان أضع حسابات للقيل والقال وخضت التجربة بكل الصدق ابتداء بعمل اللجان التي شاركت فيها وانتهاء بالديباجة التي كتبتها للدستور وقد اعتبرت ان كتابة سطر واحد فيها وسام سوف احمله علي صدري ما بقي لي من العمر.
شاركت رغم اعتراض الكثيرين في اعمال جمعية إعداد دستور مصر الثورة واشهد انها اضافت لي الكثير وكانت تجربة خصبة بكل المقاييس.. فقد اضافت لي فكرا ورؤي ومساحات شاسعة من الضوء والحقيقة.. واضافت للقلب الواهن مشاعر حب وتقدير وعرفان.. واضافت اصدقاء كان من الصعب ان يتسللوا إلي عمري في زمن عز فيه الأصدقاء.. ولكنها اضافت.. وحين اقتربت ايام الحصاد ووجدنا الثمار دانية خرجت علينا زوابع ترابية من هنا وهناك فلاحت في الأفق سحابات سوداء تحاول ان تغطي بالأتربة ما حملت الأشجار من الثمار في ليالي الصقيع الموحشة.. وفي الأفق كان نعيق غربان طائشة تتسلل من وقت لآخر وتفسد ما تساقط بين ايدينا من الثمار.. احيانا كنت اشعر بشيء من الأسي وشيء من الندم وكثيرا من السأم
وجدت نفسي حائرا مرة أخري بين اربعة عروض متتالية بمنصب الوزير رغم انني كنت احب الوزير العاشق, اولي مسرحياتي الشعرية واحب شاعرها ابن زيدون وحبيبته ولادة بنت المستكفي وتمنيت لو عشت في هذا الزمن وهذا الوطن حتي ولو كانت النهاية فراقا داميا بين ابن زيدون وولادة كما سجلها لنا التاريخ.. رفضت الوزارة في اقل من عامين اربع مرات وفي المرة الخامسة لم استطع تقديرا للحظة تاريخية فاصلة ان ارفض منصب مستشار رئيس الجمهورية وكان هذا الموقف استكمالا لخيار أول هو المشاركة في إعداد دستور مصر.. وكنت اعتقد ان الرسالة واحدة وان الدور لا يختلف ما بين فكر اساهم به في إعداد الدستور أو فكر اطرحه في حضرة رئيس الدولة أو مقالات سياسية اكتبها قد تشعل قنديلا وسط هذا الظلام العتيق الذي خلفته لنا السنوات العجاف.
أسأل نفسي احيانا: هل أحسنت الاختيار حين رضيت ان اكون ضيفا علي مائدة الساسة رغم انني لا ارتاح لها كثيرا.. ام انني في لحظة ما قد خنت شعري ووجدت نفسي حائرا ضائعا ما بين عشق قديم للشعر ونزوة عابرة مع السياسة؟.
أجد نفسي الآن حائرا..
< وجوه عابثة لا تؤمن بالحوار ولا تعترف بالرأي الآخر وتحاول ان تفرض وجهة نظرها ووصايتها في كل شيء إبتداء بالفكر وانتهاء بأسلوب الحياة ومن يختلف معها يسقط ضحية أمرين: إتهام بالكفر أو دعوة للرحيل.. تصيبني الدهشة ويحتويني الخوف وانا اسمع من يطالب الآخرين بالرحيل عن الوطن لمن يخالفونه في الرأي أو المواقف وفي أقل درجات الصدام ان من لا يعترف بما نقول أو ندعي فهو كافر.. ولك ان تتخيل وقد تفتحت عيونك طفلا علي الإيمان الحقيقي والفكر الوسطي والرأي الأخر ان تجد نفسك في هذا الإختيار الموحش اما الكفر واما الرحيل.. اسمع ولا اري علي الشاشة, من يتهم رئيس الدولة بالكفر رغم ان الرجل لم يترك صلاة الجمعة مرة واحدة منذ تولي السلطة.. وأجد علي الشاشة من يتسلل في الظلام ليطفيء انوار حفل فني في إحدي المحافظات ثم ترتفع الصرخات في قلب ميدان التحرير الذي وحدنا يوما تدعو لتقسيم هذا الشعب ما بين دولة دينية واخري مدنية وما لم نصل إليه بالإقناع والفكر والحوار يفرضه بسطوة الصراخ وإعلان الحرب واستقطاب العوام لأن من لا يقبل حكم الشريعة كافر وعليه ان يخرج من الديار رغم ان رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام لم يطرد كفار مكة ولا يهود المدينة وقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء..
< اسمع من يقول ان الديمقراطية حرام ورجس من عمل الشيطان وكيف لنا بعد ذلك ان نتحدث عن الدستور وان نطلب مشاركة من يعتبرون الدساتير بدعة والحديث عن الحريات خطيئة وحقوق الإنسان فكرا غربيا طائشا ومدمرا وأسأل نفسي: واين عقلاء الأمة ورجال الدين الحقيقيون واين اهل الوسطية؟ واصرخ وانادي اصدقاء عرفتهم وتعلمت منهم الحكمة اين الشيخ محمد الغزالي.. واين الشعراوي واين خالد محمد خالد.. واين مواقف الشيخ شلتوت وعبد الحليم محمود وجاد الحق وكيف تحول نصف الشارع المصري إلي رجال دين والنصف الأخر إلي زعماء سياسيين ولم يدرس أحد منهم في الأزهر الشريف؟.. لا يوجد الآن رجال دين أو دعاة ولكننا امام زعامات سياسية عليها ان تفصح عن وجهها الحقيقي بكل ما فيه من المطامع والأهداف والحسابات بعيدا عن قدسية الدين وسماحته.. من يطلب من معارضيه الرحيل عن الوطن باسم الدين لم يتعلم سماحة الإسلام الحقيقي.. ومن يتهم الناس ظلما بالكفر لم يعرف كيف يكون الحوار والجدل والبحث عن الحقيقة.. ومن يطلق الصيحات في ميدان التحرير امام مجتمع نصفه لا يقرأ ولا يكتب ويقول من لا يقبل حكم الشريعة كافر فهو لا يعرف متي تطبق الشرائع لأن نصف المجتمع ينام جائعا.
< انقسم الناس امامي إلي فصائل بعد ثورة يناير واصبحنا في حاجة إلي خريطة طريق ولا ادري فقد اختلطت الفصائل الدينية والفصائل السياسية واصبحنا نري مجتمعا مشوها فقد الثوابت والهوية وتحول إلي قطعان بشرية لا تفهم بعضها بعضاما نراه من صراعات بين هذه القوي لا يدخل في عالم السياسة.. وهو ابعد ما يكون عن الدين وثوابته لأن الجميع يأخذ ساترا دون ان يكون هناك فكر يحميه أو رؤي تمنحه السكينة والأمان.. مهما اختلفنا في السياسة فهي فكر ويجب ان نتعلم الحوار.. ومهما إختلفنا في الدين فهو سماحة ويجب ان نتعلم التسامح.. ولكن ما اراه في السياسة لا يخضع ابدا لمقاييس فكرية يمكن ان نتفق أو نختلف عليها.. وما نراه في الساحة الدينية ابعد ما يكون عن رحابة الإسلام ووسطيته وثوابته العظيمة..
< وسط هذا كله تهب عليك عواصف ترابية عاتية من كل جانب.. تحاول ان تتخذ موقفا سياسيا حكيما ومعتدلا ولا تجد غير الاتهامات والشتائم والصراخ.. وتحاول ان تبحث عن رؤي دينية تتسم بالحكمة والموعظة الحسنة فلا تجد غير اتهامات تكفير ودعوات رحيل أو مليونية لصدام قادم..
السياسة في مصر الآن دعوة صريحة للصدام بين جميع القوي السياسية دون تفكير في مصالح هذا الوطن امام زعامات لا تقدر المسئولية ولا تدرك خطورة اللحظة..
الدين في مصر الآن دعوات للكراهية ورفض الآخر وفرض الوصاية وتكفير الناس بالباطل.. فأي مجتمع وسط هذه الضبابية يمكن ان نصل إليه.. وسط هذا الركام ما بين الجمعية التأسيسية وقد حلمت معها ومازلت بدستور يليق بمصر.. وهتافات تنطلق من ميدان التحرير: من لا يقبل حكم الشريعة كافر.. ودعوات للرحيل لمن لا يتفق في الرأي أو المواقف.. هنا تبدو في الأفق سحابات ترابية قاتمة تغطي سماحة شعب عرف التوحيد قبل ان تهبط الأديان, وعرف الوطن قبل ان تقام الدساتير والقوانين والشرائع والدول, وعرف ان مصر هي الباقية وكل ما نراه الآن إلي زوال.