الثلاثاء، 5 مارس 2013

 من يتعرض لأي فتاة سيعاقب في الميدان عقابا يليق بفعله



سلوي علوان
قدمت رجلًا وأعادت أخري.. ترددت.. تذهب.. لا تذهب.. فمشاهد حالات التحرش التي شاهدتها علي شاشات الفضائيات في الأيام الماضية كفيلة بزرع هذا الخوف الذي تنامي في ظلام ليل غيَّم بسواده علي قلب القاهرة حينما انتشرت أخبار وتفاصيل عن حالات التحرش الجماعي التي وقعت في ميدان التحرير، كانت هتافات الميدان تؤجج قلبها ولعًا وشغفًا بالحضور والمشاركة في جمعة 'رد الكرامة'.. شعرت أن كرامة وطنها قد أُهينت حينما قُتل محمد الجندي تعذيبًا علي يد رجال النظام, واغتيل عمر سعد قنصًا، حينما 'سُحل' حمادة عبر شاشات الفضائيات علي الهواء مباشرةً, شعرت بالإهانة حينما تحرشت جماعات البلطجة المأجورة ببنات وطنها في محيط ميدان التحرير لمجرد أنهن نزلن للمشاركة في مسيرات معارضة للنظام.. شعرت بالإهانة حينما سمعت عن حكايات ووقائع التعذيب الممنهج التي جرت في معسكر الأمن المركزي بالجبل الأحمر لعشرات الشباب من المتظاهرين والتي آل بعضها للقتل كما حدث مع عمر سعد ومحمد الجندي.. تتوالي صور جيكا ومينا والشيخ عفت ومحمد كريستي والصاوي وعلاء عبد الهادي وأنس.. شعرت بالإهانة حين اختفي شباب من خيرة شباب تلك الأرض الذين ثاروا ضد فساد مبارك فأسقطوه ثم خرجوا لاسترداد ثورتهم المسروقة فاخُتطفوا واختفوا وعُذِّبوا وسُحلوا وقُتلوا في غفلة من عمر الزمن في مصر, شعرت بالإهانة حينما شهدت ذبح شهداء بور سعيد ثم ذبح بورسعيد نفسها وهي أرض الكرامة والنضال علي مر الزمن.. أُهينت حينما زُوِّرت تقارير طبية واختفت أدلة إدانات القتل العمد لأبناء هذا الوطن بفعل فاعل, حينما حوصر القضاء وشوه عمدًا وزوِّر دستور بلادها في الظلام, وأهينت حين صار صوت المرأة عورة وهي ما اعتبرته طول العمر ثورة وصرخة حق ونبرات كفاح ونضال.. أُهينت حين حدث هذا كله في بلدها بعد ثورة عظيمة كانت أولي مطالبها الحرية والكرامة والعدالة.. كل هذه الإهانات تمسها, تمس كرامتها ومصريتها وآدميتها وهويتها, لهذا كان نداء الميدان صامدًا أمام الخوف مما قد يحدث فيه.. تواترت الأفكار المتناقضة والمشاعر المختلطة المتضادة داخلها, فأي مصير قد يحدث لها ولغيرها إذا ما أقدمن علي المشاركة في تظاهرات الميدان؟.
بخطي مرتجفة ومعاندة، ودماء مرتعشة في الأوردة سارت باتجاه الميدان في تحدٍ لعدو صارت صورته واضحة ومعلنة، وإلي قلبه دخلت بتلك المشاعر المتضاربة، وعند المنصة الرئيسة الوحيدة الموجودة فيه توقفت تتفحص الوجوه، كان حولها الكثير من النساء والفتيات من مختلف الأعمار، وجدت عائلات وأسرًا وأطفالًا، وإذا بشخصٍ يتوجه ناحيتها، خفق قلبها وتسارعت ضرباته حتي كادت تفقد توازنها وصمودها، فإذا به يبتسم ويسألها بهدوء: 'فيه حد مضايقك في الميدان؟ لو سمحتي اقفي وسط مجموعة السيدات دي'.
تبدل الخوف فجأة بأمان أكثر حينما وجدت مجموعات من شباب الميدان انتشروا في كل مكان يسألون فتياته ونساءه عما إذا كان هناك من يضايقهن أم أنهن في أمان.. استجمعت قواها واستشعرت هدوءًا ونبضًا جديدًا يدب في قلبها فسرت في أوردتها حماسة وعفوية نداءات وهتافات ثورة يناير حينما كان الميدان أمانًا لتعود تهتف بأعلي صوتها وراء المنصة:
'علِّي وعلِّي وعلِّي الصوت.. إللي بيهتف مش هيموت'
'قال بيقولوا صوتي عورة.. صوت المرأة ثورة ثورة'
بهذه الصورة استطاعت المرأة المصرية كسر حاجز الخوف الذي سعت أيادٍ ملطخة بالعار والدماء أن تخلقه حينما زجت بميليشيات 'هتك العرض والتحرش الجنسي' التي ظهرت فجأة يوم الجمعة قبل الماضي علي أطراف ميدان التحرير في الذكري الثانية لإحياء ثورة يناير، ميليشيات ظهرت لتثير حالة من الرهبة داخل المجتمع المصري وتعمل علي منع النساء والفتيات من دخول الميدان لتكميم أفواههن بعد أن أثبتت المرأة المصرية قوة وجسارة منذ اندلاع ثورة يناير 2011 حتي اليوم، ميليشيات عملت علي تشويه صورة أنبل وأشرف وأطهر الأماكن في مصر.. ميدان التحرير.. حيث الثورة الحقيقية التي مازالت مستمرة، حيث تلك الأرض التي دفعت ومازالت تضخ بالمزيد من الدماء لتحقيق ما قامت لأجله ثورة يناير التي سُرقت فآلت لفصيل واحد أراد الاستحواذ علي مقدرات هذا الوطن والتمكن منه وتهميش بل إقصاء باقي طوائف المجتمع المصري والعبث بمؤسسات الدولة الراسخة وخلخلتها وإحلالها..
وجاءت ردود فعل من العديد من الجهات تناهض ما حدث وترفضه وقامت الحركات النسوية بتنظيم مظاهرات تؤيد حق المرأة في التظاهر والتعبير عن رأيها بحرية وحقها في أن تسير في شوارع بلادها في أمان، وخرجت إحدي التظاهرات التي نظمتها سيدات من حي السيدة زينب حيث مشين في شوارع القاهرة وهن يرفعن 'السكاكين' في إشارة لكل متحرش أنه لن يفلت بعد ذلك من عقاب أي أنثي يتعرض لها، وأعلنت حركات مثل 'شايف تحرش، وضد التحرش، وقوة ضد التحرش، وغيرها' عن بدء انتشار أعضاء هذه الحركات بعد ذلك في شوارع وميادين مصر - خاصةً ميدان التحرير - للدفاع عن أي فتاة أو امرأة قد يتعرض لها أي متحرش..
إلي ميدان التحرير ذهبنا لنواجه خوفًا أدركنا أنه لن يتمكن منا نحن المصريين، إلي ميدان التحرير ذهبنا بحثًا عن إجابات الأسئلة الحائرة: من هؤلاء المتحرشون؟ كيف جاءوا إلي الميدان وكيف قاموا بعمليات تحرش واغتصاب جماعي؟ من أرسلهم؟ وأين ذهبوا؟ وأين كان الثوار الحقيقيون وقت حدوث تلك الوقائع؟
كان الميدان يعج بالمتظاهرين والمتظاهرات يوم الجمعة الماضي، أغلبهم من النساء اللاتي خرجن يتحدين العصابات الإجرامية التي أرادت أن تحاصر أصواتهن ونضالهن..
من قلب الميدان جاءت إجابات أسئلتنا..
فقد صرح المسئول الإعلامي لثوار ميادين تحرير مصر وعضو الهيئة العليا لحزب الثورة جريء الطاهر بأن هذه الأحداث كانت مفتعلة وممنهجة ومنظمة لإفساد التظاهرات التي تدعو لها القوي الثورية وتضليل الرأي العام بتشويه سمعة الميدان والثوار وهي نفسها الحملات التي تعرض لها ميدان التحرير منذ بداية ثورة يناير 2011 رغم كل ما أثبته الميدان من مواقف يتضح بعد ذلك صحتها، ولأن المرأة المصرية كان لها دورها الفعال منذ ثورة يناير بل إن هذا الدور تضاعف الآن فقد أراد الذين من مصلحتهم عدم استكمال الثورة لأهدافها أن يمنع المرأة عن استكمال مسيرتها، فقامت مجموعات من البلطجية المأجورين الذين اندسُّوا وسط المتظاهرين يوم الجمعة قبل الماضي وبدءوا يتحرشون بالفتيات بعد محاصرتهن، ولأننا لم نتوقع وجود مثل هذه الأحداث في الميدان لم نتخيل أن كل مجموعة تتحرك من الممكن أن تكون محاصرة لفتاة يتم التحرش بها، بل ظننا أن تلك المجموعات تتحرك في الميدان لحماية الفتيات كما كان الحال منذ بداية ثورة يناير التي استمرت ثمانية عشر يومًا لم تتعرض فتاة واحدة لحالة تحرش إخوتهن بل إن الفتيات والنساء كن يُقمن بالميدان إقامة كاملة في حماية إخوتهن من الثوار، وكانت أعظم ملحمة وطنية طاهرة جرت علي أرض مصر تحدث عنها العالم كله، فمن له مصلحة اليوم في تفريغ الميدان من هويته، ومن في مصلحته اليوم إقصاء قوي ثورية حقيقية فعالة في الميدان هن الفتيات والنساء؟
ويضيف الطاهر: لقد أعددنا لجانًا شعبية في الميدان لحماية الفتيات من التعرض لأي مضايقات وأطلقنا دوريات تجوب أرجاء الميدان لحماية المتظاهرات فيه وأعلنا أنه في حالة تلبس أي شخص يضايق فتاة أو يتحرش بها فإن عقابه سيكون علنيًا وسط الميدان، وقبل يوم الجمعة قمنا بإخراج البائعين من الميدان وتنظيفه وإعادة دهانه وتجميله، وبالفعل مرت التظاهرة الأخيرة بسلام دون حدوث أي مشكلات، الغريب أن الآلة الإعلامية الإخوانية صارت تنسب الأمر للتحرير تشويهًا للمكان ومن فيه وترهيبًا لكل من يريد أن يشارك، واتهم شيوخها المتأسلمون المتظاهرات بالتحرير بأنهن 'ذهبن ليتم اغتصابهن، وأنهن سافرات صليبيات' وهو ما لا يقبله عقل ولا دين ولا ضمير، وبدلًا من إدانة الحدث والجاني أُدينت الضحية ليس لشيء إلا لتشويه سمعة الميدان وترهيب الناس منه ليعزُفوا عن المشاركة في فعالياته.
ورغم هذا كله فقد امتلأ الميدان هذه الجمعة بالفتيات والنساء والعائلات، جاءوا بصلابة يتحدون كل ما جري، لتثبت المرأة المصرية أنها تحمل من الوطنية والكرامة والعزة والنخوة ما ليس لدي الكثير من الرجال.
ورغم إدانة عدد من المنظمات الحقوقية والقوي السياسية تلك الوقائع، فإن الطاهر أفاد أن تلك الإدانات وُجِّهت عبر شاشات الإعلام لكنها لم يكن لها حضور حقيقي علي الأرض.
لذا فالثوار يوجهون لهم جميعًا دعوة للالتفاف بقوة حول الميدان دفاعًا عن ثواره الذين يُختطفون ويختفون ويُعتقلون ويُعذَّبون حتي الموت، ثم يتم تزوير أدلة إدانة قاتليهم ويتم التلاعب في التقارير الطبية الخاصة لتضيع دماؤهم هدرًا.
المستشفي الميداني.. قلب التحرير النابض..
سامية أحمد، هي إحدي الوجوه المعروفة داخل المستشفي الميداني، يلقبها أطباء المستشفي بالأم، تحكي عن تلك الوقائع بمرارة لكنها تؤكد أن ما حدث لن يتكرر، لأن الميدان انتبه له ولم يكن من المتوقع حدوث مثل تلك الجرائم علي أرضه لتشويهه وإفساد ثورته التي مازالت تنتفض من أجل تحرير الوطن من النظام القديم وسياساته التي مازالت مستمرة.. وتقول سامية التي تصطحب ابنتها ذات التسعة أعوام ولن تفارق الميدان حتي استكمال أهداف الثورة: فوجئنا بفتيات تم التحرش الجماعي بهن فأتين إلي المستشفي وملابسهن ممزقة تمامًا، وقد تعرضن لجروح بآلات حادة، وكان شباب الميدان يخلعون ملابسهم ويسترون الفتيات بها.
كان المتحرشون يظهرون في مجموعات يحاصرون الفتيات ولكثرتهم لم نكن نستطيع أن نحدد مَنْ الذي يفعل ذلك، كلما أمسكنا بأحد ممن حولها يقول 'أنا أنقذها' فتتوه الحقيقة، وهو ما دعا شباب الميدان من الثوار الحقيقيين لاتخاذ إجراءات حاسمة وإصدار تعليمات وتحذيرات مشددة من فوق المنصة وعبر مكبرات الصوت أنه في حال ضبط أي متحرش داخل الميدان فسيتم عقابه علنًا بالشكل الذي يليق به وبفعلته، وحددنا الأشخاص الذين كلفناهم بحماية الميدان وكل من يدخل إليه واستطاعوا بمسئولية كاملة أن يتصدوا لتلك الجرائم حتي انتهت تمامًا، هي ظاهرة غريبة ظهرت فجأة أرسلوها إلينا لمنع النساء من المشاركة في الميدان لإسكات صوت الثورة وبالتالي إجهاضها.
ما حدث من وقائع تحرش كان ممنهجًا، وقد ظهر فجأة لعدة أيام وعندما انتبهنا له استطعنا التصدي له وبقوة ومن يومها لم تحدث واقعة تحرش واحدة.
شاهد علي واقعة اغتصاب
أما الدكتور محمد كاملـ عضو الهلال الأحمر المصري، أحد أطباء التحرير - فيحكي عن واقعة تحرش شاهدها بنفسه واستطاع إنقاذ إحدي الفتيات منها، فقد شاهد مجموعة من البلطجية يختطفون فتاتين داخل سيارة ملاكي من شارع محمد محمود.. وبينما كانت الفتاتان تصرخان وتستغيثان كان البلطجية يشهرون الأسلحة البيضاء في وجوه الناس لإبعادهم عن إنقاذ الفتاتين فاضطر الدكتور محمد أن يشعل النار في زجاجة 'سبراي' تحتوي علي مضاد حيوي في محاولة للدفاع عنهما فوجد أحد المختطفين يضع فوق رقبته سكينًا ويهدده بالذبح ولم يتركه إلا عندما وجه الطبيب النار في وجهه بينما تشبثت يداه بإحدي الفتاتين فهرب الآخرون بالفتاة الأخري التي تعالت صرخات استغاثاتها.. بينما وقف الناس يشاهدون ما يحدث دون تدخل من أحد.. بل إن الدكتور كامل حينما حاول الجري وراء السيارة لإنقاذ الفتاة الأخري منعه الناس فصرخ فيهم يستفز رجولتهم وحين سألهم: كيف لم يتدخلوا لإنقاذها؟ كان ردهم 'خلينا في حالنا أسلم'.
بعد أيام عرف الدكتور محمد كامل أن الفتاة المختطفة قد تم اغتصابها وهتك عرضها وألقيت في الشارع في حالة صحية بالغة السوء.. ويدلل الدكتور كامل علي أن الأمر لم يكن مجرد وقائع اغتصاب أو تحرش.. بل إن من يفعلها يريد إبلاغ رسالة لمن هم خارج الميدان وترهيبهم حيث يتم الأمر بصورة جماعية وعشوائية وهمجية وعلنية.. مما يعني أن من يقومون به قد تقاضوا ثمن إبلاغ رسالة التهديد.
'خلينا في حالنا أسلم'!.. تلك هي مشكلتنا منذ سنوات في مصر، كسرنا تلك القاعدة مرة واحدة يوم 25 يناير 2011 حين صنعنا معجزة التوحد في ميادين تحرير مصر لكل الشعب بكل فئاته، إلا أننا حينما سُرقت ثورتنا التي سالت لأجلها دماء أطهر شبابنا، وحينما شُردت وحدتنا التي تعني قوتنا تلك التي فرضت الإرادة المصرية علي العالم كله حتي القوي العظمي فيه، لم نسع لاسترداد كرامتنا التي مازالت تُنتهك مثلها مثل ما كان قبل ثورة يناير بل أكثر، لم نتوحد فصرنا فرقًا وشيعًا تُنتهك أعراضنا في الشوارع رجالًا ونساءً ووطنًا.. 'خلينا في حالنا أسلم.. عندما تباع فتياتنا في أسواق رجال الأعمال العرب من شدة الفقر والحاجة.. خلينا في حالنا أسلم.. حينما تباع أصول بلادنا وحدودها - أمنها القومي - لخدمة المشروع الصهيوني.. خلينا في حالنا أسلم.. حينما يُغتال جنودنا المرابضون علي حدود أرضنا في صيام رمضان وحلوقهم لم تروها نقطة ماء من نيل بلادهم التي وقفوا يحرسونها ويحمونها.. 'خلينا في حالنا أسلم، حينما يموت أطفالنا وجنودنا كالنعاج تحت عجلات قطارات مهلهلة وفي إهمال جسيم وصل لحد الجريمة من سلطة لم يكن همها سوي الاستحواذ علي مفاصل الدولة لتخلد فيها للأبد.. وخلينا في حالنا أسلم'.. حينما يثور الجياع نتاج السياسات العقيمة الفاشلة والاقتصاد الذي مازال يدمر بلا خجل والعمال الذين مازالوا يشردون بينما يستحوذ فصيل واحد علي كل مقدرات الوطن.. 'خلينا في حالنا أسلم'.. حينما يُغتال زهر شباب مصر ووهج ثورتها علي يد ميليشيات وعصابات السلطة.. خلينا في حالنا أسلم'.. حينما تباع مصر بالتجزئة ليس بأنها تساوي 'كام' ولكن عمولة سمسرة البيع 'كام' نردد: خلينا في حالنا أسلم.. ولا أدري عن أي 'أسلم' تتحدثون؟!
بقيت جملة أخيرة قالتها امرأة صعيدية من سوهاج وهي تبكي في اتصال بإحدي القنوات الفضائية تلخص الصورة الحالية في مصر بجميع ألوانها السياسية والاجتماعية والدينية: 'راحت رجال العز والهيبة، وقعدت رجال ما تعرف العيبة'.
صدقتي يا أطهر نساء مصر.